top of page

طبوغرافيا دمشق التاريخية ونقطة التحول المفصلية #1

تاريخ التحديث: قبل 5 أيام

لوحة لمدينة دمشق في منتصف القرن التاسع عشر للرسام الإنكليزي كيرنوت
لوحة لمدينة دمشق في منتصف القرن التاسع عشر للرسام الإنكليزي كيرنوت

لفهم الخلل في التحول الحضري الذي أصاب دمشق، لا بد من العودة إلى بنيتها الجغرافية والتاريخية. دمشق مدينة تقليدية محاطة بسور، نشأت في قلب وادٍ خصيب يرويه نهر بردى، وتحكمها جغرافيتها من جهتين: من الشرق والغرب تمتد غوطة دمشق، وهي حزام زراعي كثيف؛ ومن الشمال والجنوب تحاصرها المرتفعات الجبلية، كسلسلة جبال القلمون وجبل الشيخ. هذا الوضع الجغرافي جعل المدينة شديدة التخصص في توزيع الوظائف: فدمشق كانت عقل المنطقة، والغوطة قلبها، والجبال درعها الواقي.

الغوطة: قلب الريف الدمشقي

الغوطة تتوزع على ضفتي النهر:

  • حوض بردى خُصص للزراعات الموسمية وفق الأعراف الزراعية المتوارثة، ويُمنع البناء فيه عرفًا.

  • ضفاف بردى العليا (الأعلى من منسوب النهر) زُرعت بالكرمة واللوزيات، ولا تُروى بري مباشر.

  • القرى البعلية انتشرت على جرف السيل وفي الأراضي المطرية، وشكلت نسيجًا ريفيًا خفيف الكثافة، متكاملًا مع الحوض والمنحدرات.

عند المدخل الرئيسي للمدينة، من جهة القلعة، كانت تقع المرجة، وهي ساحة منبسطة تُستخدم كمراعي للخيول، ومكان لتجمع العربات والأسواق الموسمية. جاءت تسميتها من ترك هامش مكاني تُترك فيه الأرض لتنمو فيها الأعشاب طبيعيًا، بما فيها من مروج وشقشقيق، لتفصل بين أرض الكرمة وسور المدينة، الذي يشكّل نقطة مراقبة استراتيجية تُشرف على مداخل دمشق وتُنذر من أي تهديد. كانت "المرجة" تمثل ما يمكن وصفه اليوم بـ"المجال الانتقالي" بين المدينة والريف، بين الصلابة السياسية والسيولة البيئية.

الأعراف الزراعية: الشريعة التي ضمنت التوازن

ما جعل هذا التكوين الجغرافي يتحول إلى كيان اجتماعي–سياسي مستقر، ليس فقط وفرة الموارد، بل منظومة الأعراف الزراعية، التي قامت بدور القانون والإدارة في غياب الدولة الحديثة. هذه الأعراف لم تكن عفوية، بل منظومة متراكمة، شكّلت ما يشبه "دستور الجماعة" الذي يضبط الحقوق، والإنتاج، والعلاقات الاجتماعية.

الأعراف الزراعية شملت:

  • تنظيم البيوع، وأنواع المحاصيل، ومواعيد الضمان والحصاد وحقوق الري.

  • تحريم البناء في أراضي الحوض لما له من أثر في تقويض دورة المياه وتقاسمها.

  • الحفاظ على الملكية الجماعية للأرض الزراعية، ومنع تفتيت الملكيات.

  • تنظيم العلاقات الاجتماعية: الزواج، الإرث، فض النزاعات، وحتى الأشهر الحرم التي حمت التوازن البيئي والاجتماعي.

  • ضمان الاستدامة: لا يُزرع ما يستنزف التربة أو يحتكر الماء.

  • مسؤوليات جماعية مثل حماية الأرض من الغزو، وشق الطرق، وتوسيع الأقنية المائية.

لقد شكّلت هذه الأعراف دستورًا أخلاقيًا غير مكتوبًا، ومنظومة متكاملة لتوليد الثروة وتنميتها وتوزيعها. حمت بها الجماعة نفسها وبيئتها، وشكّلت قيدًا ناعمًا على السلطة؛ فلم يكن الحاكم يستطيع تجاوزها دون ردّ اجتماعي أو قطيعة شرعية.

الطبقات الحضرية والريفية حول دمشق

انطلاقًا من هذا النسق العرفي–البيئي، نشأ حول دمشق تدرّج عمراني واضح ومنضبط:

  1. الطبقة الأولى: داخل السور — المدينة التقليدية، مركز الأسواق والحرف، ومقر رجال الدين والتجار. وكانت في ذات الوقت بيتًا للمال، ومخزنًا للغلال، محمية بالأسوار.

  2. الطبقة الثانية: الكرمة — أراضٍ زُرعت بالأشجار المثمرة (تينة، كرمة، لوز) على السفوح، وهي أراضٍ محمية عرفًا من تدخل الحوض الزراعي.

  3. الطبقة الثالثة: الجبال — حزام طبيعي ومناخي يحيط بالمدينة، يكبح تمدد العمران ويحمي المناخ الرطب للحوض.

المصاطب: مواضع التأثير الخارجي والاختراق السلطاني

على أطراف الوادي وسفوح الجبال، ظهرت المصاطب، وهي أراضٍ منبسطة تشكّلت بفعل تراكم السيول. تميّزت بخصائص جغرافية تجعلها مثالية للتمركز العسكري أو للتفاوض السلطاني:

  • مرتفعة عن الحوض، لكنها سهلة الوصول.

  • تربتها من البحص الناعم ورمل السيل، صلبة وغير طينية.

  • تقع غالبًا على تقاطع الطرق السلطانية.

  • تُستخدم في الحرب كمواقع مراقبة أو تفاوض، وفي السلم كمخازن ومرابط ومحطات للجباية.

دمشق ومساطبها:

🔹 مصطبة القابونتقع بين القابون وبرزة على سفح جبل برزة، وهي نقطة تماس تاريخية بين السلطة والمدينة. وقد وثق ابن طولون تدمير العثمانيين للقصر المملوكي في هذه المصطبة والاستيلاء عليها بعد تهجير قريتيها الفواقانية والتحتانية، اللتان تقعان على ضفتي الطريق السلطاني الرابط بين دمشق وباقي المدن الشمالية. وقد شكلت المصطبة منصة تفاوض بين السلطة ووجهاء المدينة. وقد سور الإنجليز جزءًا منها، تحول إلى كتلة عسكرية تضم الوحدات الخاصة، مدارس الشرطة، والشرطة العسكرية.

🔹 مصطبة الصالحية (المهاجرين)تقع على السفوح الغربية، وأُقام الوالي العثماني ناظم باشا إلى جانبها قصراً – عام 1899 – يعرف اليوم بقصر المهاجرين. وقد استقبل ناظم باشا الإمبراطور غليوم في المصطبة في إشارة رمزية للتعبير عن السطوة، لتصبح مع الوقت رمزًا للسلطة المركزية. وقد تعاظمت مكانة هذه المصطبة منذ أن بدأت دمشق تتأثر بمعادلات شرق المتوسط أكثر مما تتأثر بطريقها إلى الأناضول، ما عزز من رمزيتها السياسية والعسكرية حتى اليوم.

هاتان المسطبتان ليستا فقط تضاريس، بل نقاط تحوّل، ومراكز تأثير، تفصل بين الحكم الذاتي الذي كان تحققه الأعراف، وبين الدولة الحديثة التي فرضت رقابتها من أعلى، دون أن تنجح في التحديث، ولا أن تعود إلى الجذور السلطانية.

وقد بدأ العثمانيون المتأخرون بتوطين المهجّرين من أطراف الإمبراطورية حول هذه المساطب، كخط دفاع بشري، خاصة بعد تزايد الهجمات من البدو والمهمشين عقب إصدار قانون الطابو. أدى ذلك إلى نشوء مستوطنات ضعيفة البنية، تحولت لاحقًا إلى عشوائيات، وكان ذلك بداية ما أُطلق عليه لاحقًا "سرطان التخوم".

لحظة التحول: قانون 1858 وانكسار الأعراف الزراعية

كل هذا التوازن الطويل بدأ ينهار تدريجيًا حين صدر قانون الطابو لسنة 1858. كان هذا القانون بمثابة قنبلة تشريعية في قلب المنظومة العرفية.

ما نراه اليوم من عشوائيات، وتآكل في هوية دمشق المكانية، وانفجار عمراني غير متوازن، ليس وليد الحرب وحدها، بل نتيجة لمسار تاريخي بدأ منذ تلك اللحظة: حين فُككت الأعراف، وحُلّ العقد الجماعي، واستُبدلت سلطة الجماعة بمنطق الملكية الفردية والمضاربة العقارية.

فالأعراف الزراعية لم تكن فلكلورًا، بل كانت نظامًا فعّالًا يُنظّم الأرض والعلاقات والمستقبل. ومع غيابها، ضاعت الغوطة، وانفصل الريف عن المدينة، ودخلنا في عصر التملك الفوضوي والتخطيط المرتجل والعلاقات غير المتكافئة.

🧭 في المقال القادم، سنتناول قانون الطابو لعام 1858 كمنعطف حاسم في تاريخ دمشق، ونحلّل كيف أدى إلى تفكيك المنظومة العرفية، وتحوّل الأرض من مجال اجتماعي مشترك إلى سلعة مضاربة، مما أعاد تشكيل العلاقة بين المدينة، والريف، والدولة.


Comments


bottom of page