top of page

ترييف المدينة: تأثيرت التعليم والنظام الاجتماعي على التحول الحضري #6

المقال الثاني من الفصل الثاني – سلسلة التحول الحضري في الدول التي شهدت استعماراً – دمشق نموذجاً 1946–1958 | من الاستقلال إلى الوحدة


ثانوية جودت الهاشمي، أول مدرسة ثانوية رسمية في دمشق أُسِّسَت باسم المدرسة التجهيزية، أو مدرسة التجهيز الأولى، ثم أُطلق عليها اسم جودت الهاشمي الذي كان مديرَها الأول.
ثانوية جودت الهاشمي، أول مدرسة ثانوية رسمية في دمشق أُسِّسَت باسم المدرسة التجهيزية، أو مدرسة التجهيز الأولى، ثم أُطلق عليها اسم جودت الهاشمي الذي كان مديرَها الأول.

قبل الدخول في صلب المقال، لا بد من التذكير بخلاصة المقالات السابقة، حيث ناقشنا كيف تشكّلت في المدن السورية طبقة جديدة من المستفيدين، جمعت بين أبناء النخب التقليدية المستفيدة من إعادة تخصيص الأراضي، وأولئك الذين ارتبطت مصالحهم بالامتيازات الأوروبية. هذه النخب جمعت بين المعرفة والتجارة والسلطة، لكنها واجهت عوائق موضوعية وذاتية في التحول نحو هياكل الجمهورية وفي إدارة التحول الحضري. وفي المقال الأخير بيّنا كيف أدّت توجهات مركزة السلطة والجباية إلى حرمان المجتمع المحلي في طوق دمشق من الخدمات البلدية اللازمة للتحول، بما في ذلك تنظيم صوت الفئات السكانية. وقد أدى ذلك إلى تكريس البنية الاجتماعية الموروثة التي تقوم على الامتيازات والمحسوبية.

في هذا المقال نسلّط الضوء على بُعدين آخرين لتعميق فهم التحديات التي واجهت التحول وكيف تم التعامل معها. وسنركّز على ثلاثة عوامل: تسييس الحيّز المكاني، الذي مهّد لشرخ في السردية الهوياتية الوطنية، بالإضافة إلى نقد العملية التعليمية وانحرافاتها التي أسست لظهور فضاء موازٍ غير رسمي، إلى جانب تبعات غياب نظام اجتماعي مدني – سوسيال – على التحولات، وعلى الصراع الذي نشأ مع الجمهورية ولا يزال مستمرًا بين تيار محافظ متمسك بالتقليد دون الإجابة على سؤال التنافس الحضاري مع باقي أمم العالم، وتيار حداثاوي – تقدمي – لا يعترف بغياب متطلبات التحديث.

ومع إلغاء الصوت البلدي، فُقدت المجتمعات المحلية قنواتها الطبيعية للتعبير عن مصالحها، وتحولت السلطة إلى لعبة في يد النخب المهيمنة التي استفادت من هذا الفراغ لتعزيز نفوذها. وقد كان هذا التحول تجسيدًا لصراع اجتماعي عميق، حيث أصبح التمييز بين "المدينية" – أي البرجوازية الناشئة – و"الفلاحين" في فترة ما بعد الاستقلال، ليس مجرد مسألة اقتصادية أو اجتماعية، بل وسيلة إقصاء استُغلت من كل فئة ضد الأخرى في صياغة مخيال سياسي لم تتخلّص منه البلاد رغم مرور عقود من الزمن.

النخبوية في المخيال العام في فترة الاستقلال: التعليم والمدينة كاستحقاق للمزايا

تميزت النخبوية في تلك الفترة بمؤشرين رئيسيين: الانتماء المديني والتعليم. فالنخب كانت تُعرف بأنها "مدينية" و"متعلمة"، بينما كان الآخرون يُنظر إليهم باعتبارهم "فلاحين"، حتى وإن كانوا قد انتقلوا للعيش في المدينة، أو توسعت المدينة باتجاههم كما حصل في التوسعات الحضرية في طوق دمشق.

هذا التمييز تجلّى في حوادث واقعية توضّح كيف تم تسييس الحيز المكاني. فبالرغم من أن حي القابون تم ضمّه إلى المدينة إداريًا، إلا أن أحد الطلاب المجتهدين فيه، عندما تقدم إلى مسابقة منحة لدراسة الطب في الولايات المتحدة، ورغم حصوله على المرتبة الأولى، مُنحت المنحة لصاحب المرتبة الثانية بحجة أن الأول "ابن فلاح". ابن الفلاح هذا انضم لاحقًا إلى الكلية الحربية، وكان رئيس الشعبة الثانية حين نفّذ حافظ الأسد انقلاب "الحركة التصحيحية".

كما حدث العكس بعد ثورة البعث عام 1963، حين تقدم شاب من عائلة مدينية إلى الكلية الحربية ليحقق حلمه بأن يصبح طيارًا، مستفيدًا من بنيته الجسدية وطول قامته، لكنه رُفض بحجة أنه "ينتمي إلى البرجوازية العفنة"، وهو الوصف الذي استخدمه الضابط لتبرير رفضه. هكذا، لا يزال "سور دمشق" – رغم غياب معظمه تحت التراب – حاضرًا ليس بوظيفته التقليدية، بل كأداة تصنيف اجتماعي وسياسي.

التعليم كأداة للتحول الاجتماعي والمكاني: تحديات الجمهورية الوليدة في بناء نظام تعليم حديث

استخدام الحيز المكاني كأداة تصنيف اجتماعي وسياسي تعزّز مع انتشار التعليم والمدارس الوطنية، حيث كان التعليم هو الاحتكار الأهم الذي ميّز الكتلة الوطنية – نخبة الجمهورية الأولى. ففي مطلع القرن العشرين، كان الوصول إلى التعليم يتطلب موارد مالية كبيرة لم يكن يمتلكها سوى المستفيدين من تخصيص الأراضي والامتيازات الأوروبية، في ظل غياب تعليم وطني شامل. ومع ظهور المدارس الوطنية، مثل مدرسة جودت الهاشمي، والجامعة السورية التي تأسست عام 1923، بدأ التعليم ينتشر تدريجيًا، ما جعله أقل أهمية في التمايز السياسي والاجتماعي، وإن بقي مؤشرًا رئيسيًا للهيمنة.

التعليم كأداة للهيمنة: من احتكار المعرفة إلى أداة فرز اجتماعي

رغم توسيع نطاق التعليم تدريجيًا بعد الاستقلال، إلا أن هذه العملية لم تخلُ من الإشكاليات. فقد تحوّل التعليم إلى أداة للفرز الاجتماعي، حيث بقيت النخب المدينية هي الأكثر استفادة منه، بينما بقيت الأطراف والمناطق الريفية محرومة من فرص تعليم متكافئة.

وبحسب رؤية سيلستان فرينيه – أحد أبرز منظّري التعليم الحديث في فرنسا – فإن التعليم ليس مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل وسيلة لدمج الشعب في هياكل الجمهورية. ومن ينتقد مدرسة فرينيه يرى أن التعليم لا يجب أن يكون مجرد "سكب معلومات"، بل مصفاة انتقاء تُعدّ جيلًا من البيروقراطيين والمهنيين المفصّلين على قياس المؤسسة الوطنية والمطبعين بطباعها. فليس الإعلام وحده ما يصنع الفضاء العام، بل التعليم أيضًا. إنه الوسيلة التي تنشئ أجيالًا عابرة للقطاعات في القطاعين العام والخاص، بما يشمل قوى السوق. ومن وجهة نظر منظوماتية، فإن التعليم ليس ناقلًا للمعرفة فحسب، بل ضامن لاستنساخ "شيفرة" الدولة التي تضمن انسجام وظائف مكوناتها وتكاملها.

غياب التعليم الفني والمهني: الحلقة المفقودة في التحول الصناعي

ورغم هذه الرؤية الطموحة، فإن الجمهورية الوليدة لم تنجح في تأسيس نظام تعليمي فني ومهني وتقني يدعم خططها في التحول الصناعي. فقد شهدت البلاد، بعد الحرب العالمية الثانية، طفرة صناعية خاصة في أطواق المدن الكبرى، حيث تم تطوير مناطق صناعية وفق مخطط إيكوشار، مستفيدة من طفرات الاقتصاد العالمي ومن طموحات التحول الجمهوري. لكن هذا التوسع الصناعي لم يكن مدعومًا بنظام تعليمي فني يُعدّ العمالة اللازمة.

  • التعليم الفني في الهامش: بقيت الصناعات الحرفية في دمشق تعتمد على نظام "شيخ الكار"، حيث تُنقل المهارات عبر الورش الحرفية، لا عبر مدارس مهنية وذلك لأن العائلات بقيت متمسكة بالحفاظ على أسرار المهن، في ذات الوقت كان التعليم الرسمي يركز آنذاك على الطب – ضمن سياسة عالمية توسع قواعدها الرأسمالية لزيادة الاستهلاك عبر النمو السكاني – وعلى الحقوق، بهدف دعم البيروقراطية العسكرية والمدنية لتعزيز الحكومة .

  • المعرفة الحصرية والاحتكار الأوروبي: من أسباب بقاء التعليم الفني والمهني على الهامش، أيضًا، النزوعات الاحتكارية لدى الخوجات – وكلاء الشركات الأوروبية – لذلك ظل هذا التعليم حكرًا على الحرفيين الذين تعلموا من الخوجات، معظمهم أرمن، وكان لهم دور محوري في نقل المهن والصناعات الحديثة إلى دمشق وريفها.

  • الخواجا وشيخ الكار: كانت علاقة التعليم في هذه الصناعات تُعرف بعلاقة "الخواجا وشيخ الكار"، حيث يُعلّم الخواجا الأرمني أو الأوروبي المهارات التقنية للصنّاع الجدد، الذين يتحولون لاحقًا إلى شيوخ كار. وينقل شيوخ الكار بدورهم المهارات والخبرات إلى عمالهم. وبحسب شهادات الجيل الأول، فإن استخلاص هذه المعارف من الشركات والخواجات كان مهمة شاقة، تتطلب سنوات من العمالة الرخيصة مقابل تعلم مهنة بالكاد يتم انتزاعها من الخواجا.

التعليم الفني خارج السياق الرسمي

لذلك، ظل التعليم الفني والمهني والتقني خارج قنوات الدولة الرسمية، أقرب إلى وديعة ترعاها قوى السوق. وفي مقالات لاحقة من السلسلة، سنتناول أسباب عدم دمج هذا النمط من التعلم ضمن المؤسسات الرسمية، رغم أن خطاب حافظ الأسد أمام مجلس الشعب أشار بوضوح إلى أهمية هذا النوع من التعليم في نهضة أوروبا، كما جاء في تقارير أوبا التي هدفت لدمج سوريا في مشاريع تشاركية لحوض المتوسط.

ومع ذلك، ظل هذا النوع من التعليم يتم عبر التدريب التقليدي في الورش، أو من خلال سفر الحرفيين إلى بيروت، ولاحقًا إلى تشيكوسلوفاكيا أو يوغوسلافيا لتلقي دورات قصيرة، بعيدًا عن أي سياق رسمي. وهذا ما كرّس انفصال هذه المناطق عن الفضاء الرسمي. ويمكن القول إن هذا الانفصال كان أحد أهم أسباب الفشل في التحول إلى ضواحي صناعية منظمة.

ولفهم العوامل الأخرى لهذا الفشل، لا بد من تناول غياب نظام ضمان اجتماعي رسمي، كعامل حاسم في تحوّل طوق دمشق إلى جيتوهات اجتماعية مغلقة، حيث سادت أنماط الحياة التقليدية، واستمرت علاقات القرابة ونظام الأسر الممتدة في لعب دور مركزي بتأمين الحماية والرعاية الاجتماعية للأفراد.

ضعف نظام الرعاية الاجتماعية (السوسيال) في الجمهورية الوليدة: الأسباب والنتائج

لم تسبق شقّ الطرقات وبناء المعامل في سوريا نشوء أي نظام رعاية اجتماعية شامل، على عكس ما شهدته الجمهورية الثالثة في فرنسا، التي وضعت الأسس الأولى لما بات يُعرف لاحقًا بالدولة الاجتماعية (l’État social). ففي حين ركّزت الجمهورية السورية الأولى (1946–1958) على مشاريع البنية التحتية كمدخل للتنمية، بقيت فكرة العدالة الاجتماعية مؤجلة ومجزّأة، بسبب بنية اقتصادية قائمة على الريع الزراعي، وافتقار إلى جهاز بيروقراطي مركزي فاعل، وغياب قاعدة إنتاج صناعي تُمكّن من فرض ضرائب تصاعدية أو بناء نظام تأميني متكامل.

أما في فرنسا الجمهورية الثالثة، فقد جرى توظيف مفهوم الدولة المركزية لإرساء آليات التضامن الاجتماعي منذ أواخر القرن التاسع عشر، من خلال سنّ قوانين العمل، والتعليم الإلزامي، والتأمين ضد الحوادث والأمراض، مستندة بذلك إلى تقاليد إدارية راسخة، ونقابات منظمة، وتحالفات بين الطبقة المتوسطة وبعض دوائر الدولة. لقد قامت الدولة الفرنسية، حتى قبل قانون الضمان الاجتماعي الشامل (1945)، بتوسيع وظائفها الاجتماعية تدريجيًا، ما أوجد طبقة وسطى مستقرة وولّدت شعورًا عامًا بالمواطنة المرتبطة بالحماية والرعاية.

في المقابل، لم تنجح الجمهورية السورية الأولى في صوغ عقد اجتماعي مماثل لما تحقق في فرنسا، إذ ظلّ الفلاح مهمّشًا، والعامل ضعيف التنظيم، والمدينة معزولة عن ريفها. وقد انعكس ذلك في ضعف قدرة الدولة على أداء دور اجتماعي جامع، الأمر الذي فتح المجال لاحقًا أمام تدخلات عسكرية وشعبوية، رفعت شعارات العدالة الاجتماعية من دون امتلاك أدواتها المؤسسية الفعلية.

من جهة أخرى، لم تُدرك النخب السياسية والاجتماعية التي قادت الجمهورية الوليدة جذور هذا الخلل. فرغم شعورها بوجود أزمة في تنفيذ خطط التحديث والتعامل مع تركة الانتداب، إلا أنها انشغلت بمعالجة القشور بدلًا من التصدّي للجوهر البنيوي للمشكلة. وقد تجسدت هذه السطحية بوضوح في تجربة حسني الزعيم، الذي حاول فرض الحداثة من الأعلى عبر إجراءات رمزية، مثل طرد 'الأفندية'، ومحاربة الطربوش، وتشجيع ارتداء 'البرنيطة' الأوروبية، في تجاهل تام للحاجات الفعلية، وعلى رأسها بناء نظام تعليمي عصري، وقاعدة اقتصادية إنتاجية، ونظام رعاية اجتماعية مدني.

وقد عبّر الشيخ أحمد كفتارو عن عبثية هذه المقاربة حين قال:"يا سيدي الرئيس، عندما يتم اكتشاف دواء جديد في الغرب، تتم تجربته على الحيوانات بداية، وبعد أن يثبت نفعه، يُعمَّم العلاج. هات لنا عددًا من الحمير ولنُلبسها برنيطة، ولنتركها مدة. فإن أصبحت بعدها ذكية وعاقلة، فأنا معك."

لكن المشكلة لم تكن في البرانيط ولا الطرابيش، بل في فشل الدولة في بناء أسس متينة للحداثة الاجتماعية، نابعة من واقعها لا مفروضة عليه. لقد كان التعليم ضعيفًا، والرؤية التنموية منقوصة، والنخبة نفسها تفتقر إلى تكوين يؤهلها لقيادة تحول تاريخي حقيقي.

النتائج:

  • الاعتماد على القرابة والأسر الممتدة: مع غياب نظام سوسيال، اعتمد الناس على صلات القرابة كشبكة أمان اجتماعية، سواء في توفير السكن أو العمل أو الدعم المالي في الأزمات.

  • انتشار نظام المحسوبية والوساطة: في غياب نظام حماية اجتماعية رسمي، تحولت المنافع والخدمات إلى امتيازات تُوزّع عبر شبكات الولاء والمحسوبية، حيث أصبح الولاء للنخبة الحاكمة شرطًا للحصول على الخدمات.

  • اضطرابات عمالية وفلاحية: نتيجة لغياب آليات توزيع الثروة، وتدهور أوضاع الفلاحين والعمال، شهدت البلاد احتجاجات مستمرة تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية.

  • تكريس الفوارق الطبقية: فشلت الدولة في تحقيق تكافؤ الفرص أو تقليص الفوارق بين الأغنياء والفقراء، وأصبح التعليم والصحة والخدمات الأساسية حكراً على النخب المدينية.

  • استمرار الهجرة الريفية إلى المدينة: حيث لجأ سكان الريف إلى المدن الكبرى بحثًا عن فرص العمل والدعم الاجتماعي، لكنهم واجهوا التهميش في أحياء عشوائية افتقرت إلى الخدمات الأساسية.

خلاصة المقال:

في ضوء ما تقدم، يتّضح أن هشاشة نظم التعليم والضمان الاجتماعي في الجمهورية السورية الأولى لم تكن مجرد إخفاقات قطاعية، بل كانت تعبيراً عن عجز بنيوي أعمق في بناء منظومة دمج اجتماعي تتجاوز التقسيمات الطبقية والمكانية الموروثة. فبدل أن يتحول التعليم إلى أداة للتسوية الاجتماعية، كرّس التمييز، وأسهم في تكوين نخبة بيروقراطية تقف على مسافة من الحراك المجتمعي وقوى السوق. وفي غياب نظام ضمان اجتماعي فعّال، تكرّست أنماط الزبائنية والاعتماد على العلاقات، ما قوّض إمكانيات نشوء مجتمع مدني متماسك يلبي شرطاً أساسياً لقيام جمهورية حديثة.

تجلّت هذه الإخفاقات في الفضاء الحضري على شكل جيتوهات سكانية، و"أحياء طوق" تطوّقت بالعاصمة لكنها بقيت مهمّشة، تفتقر للبنية التحتية والفرص، وتعتمد على الولاءات السياسية بدل الحقوق الدستورية. هذا الواقع أفرز حيزاً مكانياً منقسماً، تعمّقت فيه التفاوتات وأُعيد إنتاجها مع كل جيل، ما أسهم في تشكّل فضاء مديني هجين، لا هو مديني بالمعنى المؤسساتي الحديث، ولا هو ريفي بالمعنى التقليدي، بل فضاء انتقالي مشوّه، يعكس حدود وأزمات المشروع الجمهوري ذاته.

لقد كشفت التحولات الحضرية في تلك الفترة عن عمق الفجوة بين خطاب الجمهورية وممارساتها، وبين وعود الحداثة والواقع المجزأ، مما يجعل من الضروري إعادة التفكير في مفاهيم "المركز" و"الأطراف" ليس كأوصاف جغرافية، بل كبُنى اجتماعية نشأت على أساس الإقصاء والتمييز بدل الدمج والمساواة. ومع أن العلاقة بين القطاعين العام والخاص لم تكن قد وصلت بعد إلى طابعها الزبائني المعمم الذي سيتكرّس بعد التأميم، إلا أن ملامح تشكل شبكات مصالح غير قطاعية كانت قد بدأت بالتبلور في هذه المرحلة التأسيسية، واضعةً الأساس لصيغ لاحقة من التعاون غير الرسمي بين النخب الاقتصادية والمؤسسات الوليدة للدولة. ومن هنا، فإن أي مشروع للتحول الحضري المستقبلي لا يمكن أن ينجح دون معالجة الجذور الاجتماعية والسياسية التي أسست لهذا الانقسام. في المقال القادم، سننتقل إلى تحليل الاقتصاد السياسي بمستوياته المتعددة، بدءًا من المستوى المحلي المتجذّر في البنية الريعية وعلاقات القوة التقليدية، وصولاً إلى المستوى الدولي الذي شكّل ضغوطًا وفرصًا في آنٍ معًا، وأسهم في صياغة التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للجمهورية الوليدة خلال تلك المرحلة. وسيُمهّد هذا التحليل لفهم منطق السياسات التي اتبعت لاحقًا، خصوصًا في مرحلة التأميمات، التي سنتناولها في الفصل الثالث، بوصفها تعبيرًا عن محاولة راديكالية لإعادة توزيع الثروة وتوسيع الدور الاجتماعي للدولة، لكنها غالبًا ما افتقرت إلى الأسس المؤسسية الصلبة التي كان من الممكن أن تمنحها الاستدامة والعدالة.

Yorumlar


bottom of page