دمشق تصعد على أكتاف التفاوت: من نخبة الأرض إلى نخبة الرخصة #3
- Ezzat Baghdadi
- 20 أبريل
- 6 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: 8 مايو
📘 هذه المقالة جزء من سلسلة "التحول الحضري – في الدول التي شهدت استعماراً: دمشق نموذجاً"، التي تسعى إلى تفكيك البنية التاريخية والسياسية للتحول الحضري في دمشق، كنموذج معبّر عن أزمات مدن الجنوب العالمي.

ما بين عام 1858 ومرحلة ما قبل الاستقلال، أعيد رسم وجه دمشق، ليس فقط بفعل قوانين الأرض والامتيازات، بل بفعل صعود نخبة جديدة ولّدت مدينة أخرى داخل المدينة. تحوّلت الخصخصة من إجراء بيروقراطي إلى بنية تراتبية، أعادت توزيع النفوذ والعمران والتعليم على السكان بطريقة متفاوتة تتأثر بالحيز المكاني، حيث ظلّت الأغلبية تتأرجح بين التهميش والإقصاء. كانت تلك الفترة بمثابة الحاضنة الأولى للنظام الطبقي الجديد الذي سيتكرّس لاحقًا في ظل الجمهورية الوليدة. حيث شكّل قانون الطابو لحظة إعادة توزيع كبرى، استفادت منها بالدرجة الأولى عائلات لها جذور إدارية وتجارية في ظل العثمانيين. لم يكن التملك مجرد حيازة، بل بوابة إلى التمثيل السياسي والتحكم بالموارد. وهكذا، بدأت طبقة من المُلّاك المدينيين تتشكّل، مدفوعة بالتحالف مع بيروقراطية المركز، لكنها ظلت بعيدة عن الأغلبية الفلاحية.
في غياب نظام تعليمي وطني، صار التعليم امتيازًا طبقيًا: من امتلك المال أرسل أبناءه إلى إسطنبول والقاهرة وباريس، ليعودوا بشهادات تؤهلهم لشغل مواقع الإدارة والبيروقراطية. لم يكن هناك تعليم عام، بل تعليم خاص بالنخبة. فاحتكر هؤلاء من جهة الحوكمة، ومن جهة أخرى أدوات فهم وتوجيه التخطيط المدني.
البلاد تحت وقع الحرب الأولى: تفكك البنية الاجتماعية
ما بين عامي 1914 و1918، فقدت سوريا خمس سكانها بسبب الحرب، والجفاف، والأوبئة، والمجاعة. انفرط عقد المجتمع، وتراجع النظام الزراعي، وتحولت دمشق إلى مدينة مشوشة الهوية، استقبلت لاجئين وتعيد إنتاجهم في جيوب فقر على أطرافها. وقد ذكرنا في المقالات السابقة ديناميكات توطين المهجرين من الحروب على أطراف السلطنة العثمانية في أطواق المدن، وقرب المصطبات مثل المغاربة، والأكراد، والبوشناق، والشركس – لم تُدمج هذه المجموعات في المدينة التاريخية، بل توزعت على أطرافها، هناك، بدأت هذه الجماعات في إعادة تنظيم نفسها ضمن شبكات قرابة ومصاهرة متداخلة.
في ظل غياب التمثيل السياسي، تحوّلت الأسرة الممتدة إلى النظام الأساسي للإنتاج الاجتماعي. لم تكن هذه العائلات سلبية أو مُنكمشة، بعد إعادة تخصيص الأراضي وظهور الطابو بل أعادت تكييف أعرافًا محلية خاصة لتتلائم مع هشاشة البيئة وغياب صوت يعبر عن مصالحها في صناعة قرار دمشق. وبالرغم ما ذكرناه في المقالات السابقة من أثر قانون الطابو 1858 على الأعراف الزراعية – باستثناء مشروع المرجة – حيث بقي العمار خلال تلك الفترة ظل محصورًا بالأراضي غير القابلة للري، أو تلك التي لا تصلح للزراعات البعلية، وكان يُسمح ببناء "حوش" من الطين والتبن ضمن مساحات محدودة، ضمن حوض النهر، لتُستخدم صيفًا، حيث يقضي الفلاحون معظم وقتهم في الأرض، بينما كان يعبر إلى البيوت في الضيع الناشئة في فصل الخريف. وقد ظهر ما يعرف بحمام البلد ضمن المناطق الناشئة. وبقي الاعتماد عليه بشكل أساسي إلى ما بعد منتصف القرن العشرين. حين توسعت شبكة المياه والكهرباء.
قيمة الأرض ظلت تُثمن بعشرة أمثال غلتها السنوية، ما يعني استمرار منطق القيمة الإنتاجية لا السوقية. هذه الأعراف، رغم مرونتها، ولدت هشّة لأن إعادة تخصيص الأراضي الزراعية أصبحت سائلة لا ترتبط لا بقرارات مركزية ولا بتوازنات اجتماعية، ما جعلها تذوب تدريجيًا مع تمدد التمدن وفق تصورات ايكوشار، فتآكلت الضيعة في سبيل الحي، دون أن تُدمج أو تحمى كما سنبين في بقية السلسلة.
الريف بوصفه بوابة انتقائية إلى المدينة
أعادت الحرب العالمية الأولى تشكيل العلاقة بين الريف والمدينة. لم يكن الريف مجرد امتداد غذائي أو عمراني للمدينة، بل عمل بوظيفة "المصفاة" التي لا تسمح بالمرور نحو المركز إلا للنخب. أما في الأرياف البعيدة، فلم يكن أمام الجيل الناشئ أي مخرج من الفقر والتهميش سوى الانخراط في جيش الشرق الذي أسسته فرنسا، أو الهجرة الموسمية إلى أطراف المدن للعمل في قطاع البناء أو الزراعة التجارية.
لطفي الحفار: التحديث بوصفه مقاومة وتفاوضًا
يمثل لطفي الحفار النموذج المثالي للنخبة المدينية التي نشأت في ظل الانتقال من الامتياز العثماني إلى التفاوض مع المستعمر الفرنسي، تحت ضغط الحاجة لشرعية محلية. كان الحفار رجل مشروع بامتياز، لا يتوسل السلطة، بل يبني من أجلها بنى تحتية تؤسس لمفهوم المدينة الحديثة، كما فعل في مشروع جر مياه عين الفيجة الذي كان حيوياً لتأمين مياه آمنة وخالية من الأمراض وسهلة الوصول.
لكن هذا المشروع لم يكن فنيًا بحتًا؛ لقد وُلد في سياق شدٍّ وجذب بين ثلاث قوى: الفرنسي الذي يمتلك الرخصة، ويفضل منها للشركات الفرنسية، والنخبة الوطنية التي تملك الحاجة والإلحاح ومحملة بالشرعية، والمستفيدون من تخصيص الأراضي الذين باتوا يمتلكون رأس المال. في هذا المثلث، تحرّك الحفار كفاعل مديني واعٍ لأهمية البنية التحتية كمجال للسيادة والمفاوضة. وقد نجحت محاولاته التي امتدت لخمسة عشر عام في تحقيق رؤيته امتدت بين العامين 1920إلى 1937 اجتهد فيها الحفار لتوفير مياه الشرب في مدينة دمشق بواسطة قنوات مغلقة – كما شاهدها في القاهرة. حيث كانت الأمراض المنتقلة بالمياه تنشر بكثرة.
واجه الحفار المماطلة، والتهديد، ومحاولات الرشوة، لكنه تمسك بالمشروع، وساهم في تمويله من خلال فكرة التسهيم، ما سمح للمواطنين شراء حصص من المشروع بالتقسيط، وفق نموذج تعاوني تكيفي مع تلك المرحلة وفريد. هذا النموذج لم يكن مجرد أداة تمويل، بل تعبير عن منظور جديد لإشراك السكان في إنشاء المدينة.
لقد مثّل الحفار صوتًا مبكرًا يحذّر من أن تهميش الكفاءات أو المبادرات المحلية يؤسس لاختناق حضري لاحق، وأن البنية التحتية لا ينبغي أن تكون حكرًا على أصحاب الامتياز، بل ثمرة تفاوض متكافئ بين الدولة والمجتمع. مشروع الفيجة أثبت أن الضغط الشعبي والإلحاح الإداري يمكن أن ينتزع ما لا تمنحه الرخصة تلقائيًا، وهو ما غاب لاحقًا حين بات التخطيط مقصورًا على بيروقراطية مغلقة.
التخطيط العمراني – من ظهور المركز الإداري في المرجة إلى مخطط إيكوشارد
منذ أن حوّل السلطان عبد الحميد ساحة المرجة من مرج مغمور إلى مركز إداري حديث، ضمن خطته للتحديث أواخر القرن التاسع عشر، بدأ التحول الحضري في دمشق يأخذ طابعًا مركزيًا تقوده الدولة. لم يكن التوسع العثماني باتجاه المرجة تحسينًا للخدمات أو البيئة، بل كان مشروعًا لإنتاج مدينة إدارية جديدة تتجاوز النمط الزراعي التقليدي الذي اشتهرت به المدينة القديمة. بُنيت حول الساحة رموز الدولة الحديثة: دار الحكومة (السرّاية)، مبنى البلدية، مركز البريد والتلغراف، وإدارات عامة أعادت تنظيم علاقة الدولة بالمدينة من موقع جديد خارج السور.
تسلم الفرنسيون هذا المشروع الحضري وأعادوا توجيهه برؤية أكثر صراحة في هندسة الفرق الطبقي والسياسي. فجعلوا من المرجة مركزًا مراقبًا يربط المدينة الحديثة بكل أطرافها من خلال مخطط إيكوشار في ثلاثينيات القرن العشرين، والذي لم يخضع لأي مراجعة نقدية حتى اليوم. اعتمد المخطط على نظام الحزام الدائري الذي يُطوّق المدينة القديمة، ويحدّها من التمدد العضوي، ويعزلها عن محيطها الزراعي عبر طوق صناعي وخدمي، يرتبط بمكز المدينة بواسطة خطوط شعاعية تشكل بين طوق المركز وطوق الضواحي المتخيلة ما يشبه العجلة، حيث تخرج الخطوط من المركز (المرجة) نحو الضواحي – إلى الصالحية، جوبر، القدم، وحتى مطار المزة. وقد عمد إلى أن تكون هذه الخطوط عريضة لتلائم التدخلات الأمنية السريعة المنطلقة من المركز إلى الأطراف. هذه الخطوط لم تُصمم كشبكة تكامل، بل كشبكة تحكم، تنقل السلطة من المركز إلى الأطراف، بطريقة تسمح بعد تكافؤ العلاقة، مما جعلها ناقلة للسلطة نحو المركز دون أن تنقل الحقوق أو الخدمات.
خلال تلك الفترة، ظهرت في قلب هذه الخريطة مبانٍ جديدة مثل قصر العدل، مبنى الهاتف، وإدارة سكة الحديد، وعلى أعتاب الاستقلال ظهرت مخططات أحياء مثل المالكي وأبو رمانة كنموذج للسكن الإداري–البرجوازي، محاطة ببنية تحتية محسوبة بدقة. أما المناطق التي تم تخطيها كطوق صناعي، مثل القابون وبرزة وجوبر والقدم أبقيت خارج منظومة الخدمات، والتعليم، والتمثيل خلال تلك الفترة.
الأخطر من كل ذلك، وكما أسلفت في المقالات السابقة، أن المخطط تجاهل البنية البيئية بالكامل: فدمشق ليست مدينة قابلة للتوسع اللامحدود، بل واحة عند حافة الصحراء، تعتمد على حوض مائي هش ومحدود لا يحتمل الضغط السكاني ولا التمدد العشوائي. لم يُطرح أي سؤال عن قدرة الغوطة على البقاء، ومدى تأثير ذلك على استقرار وأمن المدينة – حيث حول المخطط أراضيها كمجال عمراني احتياطي، تذوب أشجارها وسواقيها في الخرسانة بلا خطة استدامة.
لكن هذه الرؤية التخطيطية لم تكن فنية فقط، بل كانت خيارًا أمنيًا وسياسيًا: كان الهدف أن يبقى التمدن، وما يتفرع عنه من تمثيل سياسي وخدمات، يحافظ على إمكانية الاحتكار من قلة محدودة، تحافظ على علاقات مدينية ذات طبيعية عضوية بالاستعمار. أما الأغلبية، فتم دفعها إلى ضواحي لا تُدمج بل تُراقب، أو إلى أرياف مهمشة، حيث تحول الفضاء العام إلى أداة للفرز الطبقي الذي أطلق صراع الريف والمدينة، والمخطط إلى وسيلة لإقصاء الصوت، وليس لتنظيمه، ما أدى إلى سرطنة التخوم وانفجارها.
إن ما نعرفه اليوم بـأزمة المناطق المدمرة في طوق دمشق، ليس مجرد مخالفات بالمعنى القانوني أو الهندسي، وقد تمت إزالتها، بل هو النتيجة البنيوية للإقصاء المتعمد، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتدخلات الاستعمارية وما أعقبها من ظهور بنيوية سياسية تقوم على سحب الصوت السياسي واحتكار السلطة. فالمخططات الاستعمارية لم تكتفِ برسم حدود الدول، بل امتدت لتعيد تشكيل التفاصيل الدقيقة للمخططات الحضرية. حيث لم تُترك المجتمعات المهمشة لتطوّر نظمها الخاصة، ولا منحت صوتًا سياسيًا يعكس حاجاتها؛ بل وُضعت في حالة عزلة ممنهجة، تُركت معها لتتكيف مع ما تملكه فقط: نمط الحماية الذاتية الذي تمثله الأسر الممتدة، في سياق انتاج هوية محلية محدودة بشكبات الأمان المجتمعي المرتبطة بها، وهذا ما منع تشكل فضاء وطني يدعم ظهور هوية وطنية موحدة .
🧭 في المقالات القادمة، سنتابع في تطور التحول الحضري، وكيف تطوّرت المجتمعات المحلية في أطواق المدن ضمن قوقعة داخلية، بنت فيها أعرافها وسكنها ومفهومها الخاص للمجال، لا كريف زراعي، ولا كمدينة حديثة، بل كوحدة هامشية تُنتج، لكنها لا تُمثّل. لم يكن المخطط الحضري غافلًا عنهم، بل كان مصممًا بدقة لتفاديهم، وعزلهم عن مسارات الخدمات والقرار.مع ذلك، كشفت تلك المرحلة أن المدينة لا تُبنى فقط بالإسمنت، بل بالرؤية والعدالة. من مشروع الحفار إلى مخطط إيكوشار، ومن نشوء النخبة إلى تهميش الريف، كان السؤال واحدًا: من يملك المدينة؟ وفي المقال القادم، سنتتبع كيف انفجر هذا السؤال على شكل صراع طبقي واجتماعي في خمسينيات القرن العشرين. تابعوا الوسم #سلسلة_التحول_الحضري | #دمشق_نموذجاً | #04 | #UrbanRecovery | #ConflictResolution | #SyrianGovernance
Comments