إرث الإقصاء: كيف ورثت دمشق ما بعد الاستعمار بنية الإقصاء العمراني؟ #4
- Ezzat Baghdadi
- 24 أبريل
- 8 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: قبل 5 أيام
📘 هذه المقالة جزء من سلسلة "التحول الحضري – في الدول التي شهدت استعماراً: دمشق نموذجاً"، والتي تسعى إلى تفكيك البنية التاريخية والسياسية للتحول العمراني في دمشق، كنموذج معبّر عن أزمات مدن الجنوب العالمي.

في ختام الفصل الأول من السلسلة ، التي ركزت على الفترة التاريخية قبل الاستقلال نقف أمام خلاصة مركزية: لم يكن ما يُسمى بفترة ما بعد الاستعمار سوى استمرارية مقنّعة لبنية إقصاء تأسست في لحظة مبكرة مع صدور قانون الطابو لعام 1858. لم تأتِ الجمهورية الوليدة بمشروع مديني بديل، بل ورثت منظومة السيطرة على الأرض والفضاء والإدارة، وأعادت تشغيلها تحت عناوين وطنية جديدة دون المساس بجوهرها.
هذه المقالة لا تروي فقط كيف وُلدت العشوائيات بوصفها مناطق "غير مرخصة"، بل تكشف كيف أن هذا التوصيف هو جزء من القاموس السلطوي نفسه، الذي حجب عن سكان الأطراف الحق في التمثيل، والتمدد، والاعتراف، وكرّس البنية العمرانية كأداة للضبط السياسي والاجتماعي.
فالمدينة، كما نحاجج هنا، ليست مجرد عمران. إنها نظام إنتاج للسلطة. ومن يقرأ طبوغرافيا دمشق جيدًا، يمكنه أن يقرأ معها خريطة السيطرة السياسية، ودوائر الوكالة، وآليات إعادة إنتاج التبعية. ما بعد الاستعمار لم يُعد كتابة المجال العام، بل حافظ على معالم الهيمنة التي رسمها الاستعمار بيده، وترك النخب الحاكمة المحلية لتلعب دور "الوكيل" عن هذا المشروع القديم–الجديد.
في هذه الخاتمة، نقف على حدود تلك المرحلة، لنوضح التركة الثقيلة التي خلفها الفصل الأول من التحول الحضري، التركة التي ما تزال تحكم إيقاع دمشق حتى اللحظة.
1. ما بعد الاستعمار: استمرارية البنية لا قطيعة مع الماضي
حين رُفع علم الجمهورية السورية على المباني الحكومية مع نهاية الانتداب الفرنسي، لم يتغير شيء جوهري في خريطة السلطة الحضرية. بقيت الخرائط ذاتها، وتقسيمات الفضاء، والوظيفة العميقة التي صُممت لأجلها: أن تبقى المدينة مرآة لعلاقة غير متكافئة بين مركز صغير محصّن ومسيطر، وأطراف واسعة مهمشة، ضُبطت جغرافيًا قبل أن تُضبط سياسيًا.
في الواقع، ما عُرف بفترة "ما بعد الاستعمار" كان في جوهره استمرارًا لعلاقة الوكالة، حيث ظلت النخب المحلية تدير أدوات السيطرة التي صمّمها المستعمر، ولكن تحت أعلام وخطابات وطنية. لم تُفكك بنية الإقصاء، بل أُعيد تدويرها:
الرخصة بقيت أداة للمنح والمنع،
الامتياز استمر كآلية لضبط النفوذ،
والتخطيط ظل أداة للفصل والتفكيك أكثر منه أداة للتنظيم والمشاركة.
لم تُطرح أسئلة إعادة بناء العلاقة بين السكان وحقهم في المدينة، لم تُراجع فلسفة الطوق، ولا المخطط الشعاعي، ولا أُعيد النظر في فكرة المركز المحصّن المحاط بأطراف ضعيفة بلا تمثيل. كل شيء استُبقي كما هو، لأن تغييره كان يهدد الهيكل الذي بُنيت عليه سلطة ما بعد الاستعمار.
2. التحالفات الخارجية وإنتاج فضاء الحجب السياسي
لم يكن الخروج الشكلي للاستعمار في سوريا لحظة ولادة مشروع سيادي مستقل، بل لحظة إعادة توزيع أدوار الوكالة السياسية. لم تُطرح السيادة بوصفها استعادة للقرار الوطني على التخطيط والإدارة العمرانية، بل كإعادة تموضع للنخب المحلية ضمن شبكة تحالفات إقليمية ودولية تضمن استمرار السلطة، لا استمرار العقد الاجتماعي.
ما حصل هو أن النخب الحاكمة أوجدت مصدر شرعيتها خارج العلاقة مع سكانها، وعقدت هذا الرباط مع الخارج، سواء كان فرنسيًا، أو بريطانيًا، أو لاحقًا سوفييتيًا. أصبح الحفاظ على علاقات الوكالة مع القوى الخارجية هو الوسيلة الأساسية لضمان الحكم، لا بناء نظام تمثيلي أو عقد اجتماعي داخلي.
في ظل هذه الديناميكية، تحولت العاصمة إلى فضاء مخطط بعناية لخدمة هذا التوازن المختل. لم تُصمم المدينة لتكون فضاءً مشتركًا للسكان، بل لتكون مسرحًا للسيطرة، وجدارًا صلبًا يحجب الأصوات المحلية ويمنع تشكّل حقل سياسي حقيقي.
أصبحت الرخصة العمرانية والامتيازات أدوات ضبط لا تقنيات إدارة. لم يكن من المهم فقط أين يبني الناس، بل من يُسمح له بالبناء، ومن يملك قرار التوسع، ومن يظل خارج اللعبة كليًا. وبهذا، جُعل الحي، والمبنى، وحتى شبكة الطرق، انعكاسًا مباشراً للعلاقات السياسية، وامتدادًا لخرائط النفوذ.
المناطق "المُخدمة" لم تكن مجرد أحياء مخططة، بل كانت الأحياء التي تستوعب النخبة وتمنحها القدرة على إعادة إنتاج امتيازاتها، بينما بقيت الأطراف مناطق تخزين للبشر دون حقوق، يمكن تعبئتهم عند الحاجة أو تفكيكهم بسرعة إذا تمرّدوا. ليس مصادفة أن أكثر مشاريع الإسكان الرسمية التي ظهرت في تلك الفترة، مثل مناطق السكن الشعبي أو "الضواحي الجديدة"، كانت في جوهرها مشاريع لاحتواء الفائض السكاني وليس لإعادة توزيع الحقوق.
في هذا السياق، أصبح التوسع العمراني أداة لضبط الهوامش، لا لإدماجها. لم تُطرح أي رؤية حقيقية للمدينة بوصفها مجالًا عامًا حيًا، بل كمساحة للسيطرة والتفكيك، موزعة بدقة بين مناطق مرخصة مخططة ذات وظائف سياسية واقتصادية واضحة، ومناطق غير مرخصة تُترك في حالة "استثناء مُدار" يسهل تطويعها وتحشيدها عند الضرورة.
3. المدينة كشبكة للضبط: قراءة الطبوغرافيا كخارطة للعبة السياسية
من يقرأ طبوغرافيا دمشق اليوم، لا يقرأ فقط جغرافيا المدينة، بل يقرأ معها بنية السلطة وخارطة السيطرة السياسية وتحالفات الحكم. فالعمران في دمشق لم يكن يوماً مجرد تراكم مادي عشوائي، بل كان دومًا انعكاسًا دقيقًا لنظام إنتاج السلطة وضبط الفضاء.
منذ تخطيط إيكوشار في ثلاثينيات القرن العشرين، وحتى التوسعات المتتالية في مرحلة ما بعد الاستقلال، حافظت دمشق على فلسفة "المدينة المحصّنة": مركز صغير، متماسك، محسوب جيداً في وظائفه العمرانية والخدمية، محاط بطوق من الضواحي التي أُنتجت لتكون مناطق امتصاص للضغوط الاجتماعية، لكنها بقيت خارج نسيج المدينة السياسي والثقافي والاقتصادي.
الأحياء البرجوازية مثل المالكي وأبو رمانة صُممت لتكون حاضنة للنخبة الحاكمة، محمية ببنية تحتية عالية المستوى، مؤمّنة بالخدمات، وتُدار بمقاييس تُرضي قوى النفوذ. في المقابل، كانت الأحياء المحيطة بالمدينة — القابون، برزة، جوبر، القدم — مجرد فضاءات عمل أو استقرار صامت، تؤدي وظائف محددة دون أن يُعترف لها بدور في تقرير المصير السياسي أو الاقتصادي.
لكن السيطرة لم تقتصر على رسم حدود الأحياء. لقد امتدت إلى ضبط الفضاء نفسه:
عبر نظام ضريبي يدفع الفئات الدنيا نحو الاقتصاد غير الرسمي؛
عبر تقسيمات إدارية تُحكم المجال الرسمي وتترك المجال غير الرسمي عرضة للموافقة الأمنية؛
وعبر تنظيم استثنائي يجعل من القانون أداة للانتقائية، لا للإدارة الشاملة.
بهذا المعنى، الفضاء الرسمي لم يكن مجرد منطقة مرخصة بالقانون، بل هو المنطقة التي يُدار فيها القرار، بينما بقي الفضاء غير الرسمي مجالاً مرنًا، قابلاً لإعادة التوظيف السياسي والاجتماعي بحسب الحاجة.
والأخطر أن هذا الفضاء غير الرسمي، بعكس ما قد يُظن، هو الأكثر قابلية للتفكيك والتحشيد. هشاشته القانونية تجعله هشًّا سياسيًا، جاهزًا ليُستخدم أداة ضغط في أوقات الأزمات، وقابلاً للاحتواء السريع متى ما اقتضت الضرورة. وهو ما يفسر كيف تحولت الأحياء التي أُقصيت عن المشاركة إلى ساحات تعبئة أو قمع مؤقتة، دون أن ينتج ذلك هزة حقيقية في بنية النظام.
هنا تحديداً يتجلى جوهر لعبة الفضاء في دمشق: إنتاج هامش ضخم، ثم التحكم بهذا الهامش ليس عبر الدمج والمشاركة، بل عبر الإدارة الأمنية المباشرة، وإبقاء إمكانية التفكيك مفتوحة دائماً كخيار استراتيجي.
في هذا النموذج، لا يصبح الفضاء الجغرافي مجرد مسرح للعمران، بل يتحول إلى خارطة للصوت السياسي: من يملك الحق في أن يكون مرئياً؟ ومن يُدفع إلى هوامش العزلة والصمت؟
الطوبوغرافيا هنا ليست أداة جغرافية صامتة، بل هي خطاب السلطة نفسه، مرسومٌ بالإسفلت والجدران وحدود الأحياء.
4. العشوائيات كمفهوم سلطوي: بين خطاب المخالفة وآليات الإقصاء
في الخطاب الرسمي، غالباً ما تظهر العشوائيات بوصفها مناطق «سكن غير مرخص»، وكأنها مجرد خلل في تنفيذ القوانين أو نتيجة انفلات عمراني عفوي. لكن هذه التسمية، في جوهرها، ليست سوى جزء من منظومة أعمق لإعادة إنتاج السيطرة والإقصاء.
العشوائيات في دمشق لم تكن يوماً "خروجاً" عن المخطط الحضري، بل كانت واحدة من أبرز نتائج هذا المخطط حين يكون هدفه الأساسي هو العزل والاحتواء، لا الإدماج والتمثيل. هذه المناطق لم تولد صدفة، بل جاءت كأثر مباشر للسياسات التي حصرت الفضاء الرسمي في مناطق ضيقة، تُدار عبر الرخص والامتيازات، وتركت باقي الفئات الاجتماعية تتزاحم على هامش مساحي هشّ، خارج الاعتراف القانوني والحقوقي.
التوصيف الشائع لهذه الأحياء بوصفها "غير مرخصة" أو "مخالفة" لا يشرح واقعها، بل يختزله ويُسقط المسؤولية على السكان أنفسهم. يجعلهم الجناة، بينما الحقيقة أن السياسات نفسها هي التي صممت هذه الفضاءات لتكون خارج التمثيل وخارج الحماية.
في ظل هذا النظام، يصبح "السكن غير المرخص" هو الاسم القانوني للإقصاء السياسي. سكان العشوائيات ليسوا مخالفين بالمصادفة، بل مقصيين عن قصد، ضمن بنية تخطيطية لا تسمح لهم بالاعتراف بهم كفاعلين سياسيين أو مدنيين. القانون هنا لا يضبط العمران، بل يضبط الشرعية، ويُحدّد من له الحق في أن يكون مرئياً، ومن يُراد له أن يبقى في الظل.
هذا الفضاء الهشّ، الذي يبدو بلا نظام، هو في الحقيقة جزء من نظام أوسع. منطقة قابلة للابتزاز في أوقات السلم، وقابلة للقمع أو التحشيد في أوقات الأزمات. قابلة للتفكيك متى ما حاولت أن تتجاوز الدور المرسوم لها.
من الخطأ أن نفهم العشوائيات كنتاج لفوضى عمرانية فقط. إنها نتيجة مقصودة لبنية تخطيطية–سياسية سعت منذ البداية إلى إنتاج سكان بلا مدينة، ومناطق بلا صوت، وبنى عمرانية بلا حق في القرار.هي ليست مجرد فراغات في التنظيم، بل فراغات في التمثيل.
بذلك، يتحول توصيف «السكن غير المرخص» إلى خطاب سلطوي بامتياز: أداة لتبرير استمرار بنية التفاوت، وإعادة إلقاء اللوم على الفئات المستثناة، بدلاً من مساءلة السياسات التي صممت هذه الأوضاع منذ الأساس.
النتيجة ليست فقط عجزاً عمرانيًا، بل عجزًا سياسيًا واجتماعيًا ممنهجًا: لا توجد علاقة مباشرة بين العمل والتمثيل، ولا بين السكن والاعتراف، بل علاقة مضبوطة بالحرمان. سكان الأحياء العشوائية يُسمح لهم بالوجود، لكن يُحرمون من المشاركة.
بهذا، تغدو العشوائيات في دمشق ليست ظاهرة هندسية بل بنية سياسية بامتياز، تشكّل واحداً من أكثر وجوه الإقصاء رسوخًا، وتُدار كمساحات احتواء وتفكيك، لا كمناطق للعيش المشترك.
5. إرث التحول العمراني قبل الاستعمار وما بعده: سؤال الاستدامة المؤجل
إذا كان قانون الطابو لعام 1858 قد أطلق لحظة إعادة تخصيص الأرض وفتح الباب لظهور نخبة من المُلّاك، فإن ما أعقب هذه اللحظة لم يكن سوى تعميق لهذا المسار، سواء في أواخر العهد العثماني أو خلال الانتداب الفرنسي، بل وحتى في مرحلة ما بعد الاستعمار التي لم تتجاوز كونها إعادة تدوير للأدوات نفسها تحت غطاء وطني.
السؤال الذي لم يُطرح قط: كيف يمكن بناء مدينة قابلة للحياة، عادلة في توزيع الفضاء والحقوق؟بدلاً من ذلك، جرى تثبيت الانفصال بين الناس والأرض، وأُخضع المجال العمراني لمنطق الامتيازات والرخص، وتحولت الأرض من مورد مشترك إلى أصل قابل للمضاربة، إلى أن صار الفضاء نفسه أداة للسيطرة.
التحول الحضري في دمشق لم يعرف لحظة قطيعة مع هذا الإرث. لم تحدث ثورة في السياسات العمرانية، ولم تُطرح رؤية للحق في المدينة أو في التمدن. لم تتغير الفلسفة التخطيطية: بقي الطوق، بقيت المخططات الشعاعية، وبقي المركز المحصن يحكم أطرافاً هشة، منفصلة سياسياً وحقوقياً عن مركز القرار.
لكن الأخطر أن سؤال الاستدامة لم يُطرح أساساً. لم يُسأل:
هل يمكن لدمشق، بوصفها واحة على حافة الصحراء، أن تتحمل هذا النوع من التمدد العمراني؟
هل يكفي الحوض المائي لإمداد المدينة بالغذاء والماء في ظل هذا التوسع؟
ماذا يعني أن تتحول أراضي الغوطة، لا إلى حزام حماية غذائي وبيئي، بل إلى احتياطي عمراني جاهز للإلتهام عند كل موجة توسع؟
على العكس، ظل النظر إلى هذه المساحات بوصفها "أراضٍ بيضاء" قابلة للاستثمار، لا كأرض لها وظيفة بيئية واجتماعية وسياسية.
ولم يكن غياب هذا السؤال مجرد سهو، بل كان اختيارًا سياسيًا. كان الإبقاء على هوامش هشة وضعيفة ضرورة استراتيجية لنظام قائم على الإقصاء لا على الإدماج. منطقة قابلة دوماً للضبط والتحشيد، لكنها محرومة من التمثيل، بلا قدرة على التفاوض على شروط البقاء أو المشاركة.
هكذا، ورثت الجمهورية بنية عمرانية لم تُبنَ على أساس العدالة أو المشاركة، بل على أساس الفرز والاحتواء، واستمر هذا الإرث حتى اللحظة. وما نعرفه اليوم من أزمات المناطق العشوائية، أو "المدمرة" في طوق دمشق، هو في حقيقته ليس مجرد أزمة مخالفات بناء أو فوضى تنظيمية، بل هو النتاج الكامل لبنية إقصاء رُسِّخت على مدى قرن ونصف.
لقد دخلت دمشق الحداثة بأسوأ أشكالها: لا كمدينة حرة تحكمها المشاركة، بل كمدينة تخطط لضبط سكانها قبل أن تُخطط لاحتياجاتهم.
وما تركته هذه الحقبة هو تركة ثقيلة لم تُحسم حتى اليوم:
مدينة بلا عقد اجتماعي فعلي؛
ضواحي بلا إدماج حقيقي؛
سكان بلا تمثيل؛
وهوامش قابلة دوماً للتفكيك والتحشيد، لكنها عاجزة عن فرض صوتها المستقل.
الخاتمة: إرث لم يُنجز… ومسار لم يُقطع
حين ننظر اليوم إلى خارطة دمشق، لا نرى مجرد توزيع للأحياء أو تقاطع للطرق، بل نقرأ على وجه المدينة كلها سردية عميقة عن كيف أُدير هذا الفضاء، وعن العلاقة المختلة بين السلطة وسكانها.
ما بعد الاستعمار لم يكن لحظة تحرير للفضاء، بل لحظة تدوير للبنية ذاتها التي أُنتجت منذ أواخر القرن التاسع عشر. لم تتغير الخرائط ولا تقسيمات المدينة، بل تغيّرت فقط ألوان الأعلام المرفوعة على مكاتب السلطة.
كان التحول العمراني جزءًا لا يتجزأ من منظومة حكم جعلت من المدينة مركزًا للسلطة، وجعلت من الأطراف مجرد هامش قابل للإدارة، لا شريكًا في القرار.
العشوائيات، إذن، لم تكن حالة عمرانية طارئة، بل كانت التعبير الأكثر صدقاً عن هذه المنظومة: سكان أُقصوا عن الحق في المدينة، وُضعوا في فراغ إداري وقانوني مُحكم، يتأرجحون بين الابتزاز والقمع.
ما يظهر اليوم كأزمة إسكان أو "عشوائية" ليس سوى نتيجة مباشرة لهذه البنية. فهم هذه الأزمة لا يمر عبر عدد الرخص أو تراخيص البناء، بل يمر عبر تفكيك المنظومة التي ربطت الأرض بالامتياز، وربطت السكن بالضبط، وربطت التمدن بالاحتكار.
هذه التركة الثقيلة هي ما تركه لنا الفصل الأول من التحول الحضري في دمشق — تركة لم تنتهِ فصولها بعد، بل ما تزال تحكم إيقاع المدينة حتى اللحظة.
في المقال القادم، في المقال الأول من الفصل الثاني في السلسلة سنواصل تتبع هذه التناقضات، لنرى كيف انفجرت هذه البنية في خمسينيات القرن العشرين على شكل صراع طبقي واجتماعي مكشوف، حين اصطدمت أوهام السيطرة العمرانية برغبة الفئات الدنيا في التمثيل والمشاركة، وبدأت أطراف دمشق تهتز، لا بفعل الزلازل الطبيعية، بل بفعل الزلازل الاجتماعية. #سلسلة_التحول_الحضري | #دمشق_نموذجاً | #05 | #UrbanRecovery | #ConflictResolution | #SyrianGovernance
Comments