top of page

حين يُعاد تنظيم المدينة بسلطة لا تمثل سكانها – أزمة الفروغ نموذجًا



يُسلّط هذا التقرير الضوء على أزمة "الفروغ" في دمشق، لا بوصفها خلافًا عقاريًا بين مالك ومستأجر، بل كمرآة لعلاقة مختلّة بين الدولة وسكانها.

منذ عقود، سمحت الدولة السورية بنشوء نظام قانوني يحمي "حق الانتفاع" لفئات من التجار والحرفيين، في ظل غياب العدالة التوزيعية واحتكار السلطة لحق التصرف في الملكيات. ومع تغيّر النظام السياسي في دمشق مؤخرًا، عادت الأزمة إلى الواجهة تحت شعار "تنظيم الأسواق"، لكنها تحوّلت إلى أداة لإعادة توزيع الامتيازات، لا لتحقيق العدالة.

يعتمد التقرير على تحليل تاريخي–قانوني واجتماعي لنظام الفروغ، ويُظهر كيف:

تحوّل الفروغ من أداة حماية اجتماعية إلى ساحة صراع طبقي وشرعي؛



أصبح الشاغل التجاري ضحية بين الدولة القديمة التي أهملته، والجديدة التي تريد طرده باسم القانون؛



تتقاطع القوانين مع المصالح السياسية في غياب عقد اجتماعي جديد؛



لا يمكن بناء عدالة حضرية دون تمثيل فعلي لمن عمّر المدينة فعليًا لا من امتلك سجلًا عقاريًا.



السؤال الجوهري الذي يطرحه التقرير:

هل ما يجري اليوم هو إصلاح؟ أم إعادة توزيع للامتيازات ضمن ترتيبات غير معلنة لنقل السلطة من يد إلى أخرى؟

وهل تتحمّل دمشق شكلًا جديدًا من الإقصاء العمراني دون أن تنهار الثقة نهائيًا بين السكان والدولة؟


تجار دمشق يتظاهرون ويطالبون بالتراجع عن «إلغاء الفروغ»
تجار دمشق يتظاهرون ويطالبون بالتراجع عن «إلغاء الفروغ»

1. مقدمة

بعد وصول نظام جديد إلى العاصمة تجمّع عشرات التجار أمام غرفة تجارة دمشق، يهتفون بشعار مختصر لكنه شديد الدلالة:

"الشعب – سوريا خط أحمر".

في ظاهر الأمر، كانت الوقفة احتجاجًا على قرار تنظيمي جديد.

لكن في عمقها، كانت صرخة ممتدة من أحياء دمشق القديمة، حيث بقيت محلات وشقق مأهولة لعقود بموجب عقود "فروغ" – نظام قانوني قديم أعيد استُخدمه لحماية الشاغلين في زمن الاشتراكية، ثم تحوّل لاحقًا إلى عبء على المالك، وذريعة للطرد عند انهيار منظومة الأسد.

بين من يرى في الفروغ سرقة مغلّفة، ومن يراه حماية لحق موروث، نشأ صراع لا قانوني فقط، بل اجتماعي وأخلاقي وسياسي.

فهل يملك التاجر الذي خدم السوق نصف قرن "حق البقاء"؟ أم أن ما يملكه المالك الوريث – أو المطوّر الطارئ – من ورقة طابو، يكفي لطرده؟

ومن يحق له أن يُعيد تنظيم المدينة: من بناها فعليًا، أم من سيطر على خارطتها؟

هذا التقرير لا يجيب عن هذه الأسئلة فقط، بل يُفكّك البنية التي جعلت من الفروغ قضية تتجاوز العقار لتكشف الخلل في علاقة الدولة بسكانها، وفي فهمنا للعدالة داخل مدينة تُنظّم دون أن تُمثّل سكانها.

2. ما هو الفروغ؟ ومن أين بدأت القصة؟

لم يكن "الفروغ" في بداياته مخالفة أو غصبًا، بل ترتيبًا قانونيًا منظمًا، أُقرّ خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، واستمر العمل به في ظل الدولة الوطنية.

بموجبه، لا يُعامل المستأجر كمجرد شاغل مؤقت، بل كصاحب حق مستقر في الانتفاع، يسمح له بالبقاء في العقار حتى بعد انتهاء مدة العقد، ولا يجوز إخراجه دون تعويض يُعرف باسم "الفروغ".

هذا النظام نشأ في سياق اجتماعي–سياسي أراد حماية صغار الحرفيين والتجار من تحكّم الملاك أو تقلّبات السوق، خاصة في وسط المدن. ومع الزمن، ترسّخ الفروغ كآلية غير رسمية لتوزيع الامتيازات، تحمي الاستقرار التجاري والاجتماعي.

لكنه، في ظل غياب آليات تحديث عادلة، تحوّل تدريجيًا إلى نقطة صدام:

بالنسبة للمالكين الجدد أو الورثة، بدا وكأنه قيد على التصرف.



وبالنسبة للمستأجرين القدامى، أصبح سندهم الوحيد في وجه موجات الطرد والتحديث القسري.



هكذا، تحوّل الفروغ من أداة حماية اجتماعية إلى أزمة قانونية واجتماعية مركّبة، لا يُمكن تفكيكها دون فهم السياق السياسي الذي أنشأها.

جذور الأزمة:

لم تولد أزمة الفروغ فجأة، بل تشكّلت على مدى عقود من التداخل بين السياسات العقارية والاقتصاد السياسي للدولة السورية.

أولًا: تجميد الإيجارات بعد الاستقلال

مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، تدخلت الدولة لتجميد الإيجارات في محاولة لحماية المستأجرين من ارتفاع الأسعار وندرة المعروض، خصوصًا بعد موجات النزوح من الريف والحرب.

هذا التجميد – رغم حسن نيته – جعل العلاقة بين المالك والمستأجر غير متوازنة:

بقيت الأجور منخفضة رغم تغيّر الزمن.



ولم تُعدّل العقود لتواكب التغيرات الاقتصادية أو التضخمية.



ثانيًا: الاقتصاد السياسي بعد الستينات – من السوق إلى السيطرة

مع دخول البلاد مرحلة التأميم وبناء الدولة الاشتراكية، أصبحت العقارات جزءًا من هندسة الولاء السياسي.

لم يكن المطلوب فقط تنظيم السوق، بل تجميد الحراك الاقتصادي الاجتماعي نفسه:

احتفظ آلاف المستأجرين بمحلاتهم كمصدر رزق محمي،



بينما حُرم المالكون من أية سلطة فعلية على أملاكهم.



وهكذا، نشأ التوتر: الدولة حمت المستأجر لكنها لم تعوّض المالك. الآن هناك محاولات تخلّي عن الحماية، لا تُعطِ المستأجر بديلًا.

إنها أزمة امتيازات بلا تحويل، وحقوق بلا تعاقد جديد.

الفروغ كمنظومة لا كاستثناء:

مع الزمن، تحوّل الفروغ إلى شبكة ضخمة من الحقوق المنتشرة والمُعلّقة، تنتقل بالعرف، لا بالسجل العقاري، وتُثبّت بالاستمرارية، لا بالعقود الرسمية. وهو ما ظهر جليًا في محاولات "خطة تحسين مركز دمشق" في الستينيات، حيث اصطدمت الدولة بجدار من الحقوق المعنوية والتاريخية غير القابلة للنقل أو الإلغاء ببساطة.

بين السوق والذاكرة: حيث أصبح الفروغ أكثر من عقد.

فهو ذاكرة محل، وسمعة تاجر، وامتداد اجتماعي لعقود من العمل. وحين بدأت الدولة منذ التسعينيات في إعادة النظر فيه، لم يكن ذلك تحت شعار العدالة، بل باسم "تحرير السوق" و"تشجيع الاستثمار". وهكذا بدأت طبقة جديدة من المستثمرين، كثير منهم على صلة بالسلطة، بمحاولة نزع هذه الحقوق القديمة، إما بالقوة القانونية أو أحيانًا عبر الضغط الأمني المباشر.

3. تحولات الاقتصاد والسلطة: من الحماية إلى التواطؤ

في مرحلة ما بعد الاستقلال، تبنّت الدولة السورية دور "الوسيط الحامي" بين كبار المالكين من جهة، والشرائح الصغرى من الحرفيين والتجار من جهة أخرى، خاصة أولئك الذين أسسوا استقرارهم المهني داخل الأسواق التاريخية للمدن.

ورغم هشاشة مؤسسات الدولة حينها، إلا أن منطقها كان يقوم – نظريًا على الأقل – على فكرة العدالة الاجتماعية، وكبح تغوّل رأس المال العقاري.

مرحلة الحماية الاشتراكية

خلال الستينيات والسبعينيات، وفي ظل التوجّه الاشتراكي، رُسّخ الفروغ كأداة حماية شبه عُرفية تشبه "الحق العيني غير المسجّل".

لم يكن الشاغل مجرد مستأجر، بل أصبح يتمتع بسلطة فعلية على المحل، لا يمكن إزاحته بسهولة. وقد ساهم هذا النمط في نشوء طبقة متوسطة تجارية–حِرَفية حافظت على نبض السوق الدمشقي:

من أصحاب المهن اليدوية، إلى تجار المواد الغذائية، إلى وكلاء الماركات الأجنبية في شوارع الحريقة، والحميدية، وسوق مدحت باشا.

لكنّ هذه المعادلة لم تكن بريئة تمامًا.

فالدولة كانت تقول ضمنيًا:

"ابقَ في مكانك، وادفع القليل، وابتعد عن السياسة."

أي أن الحماية كانت مشروطة بالولاء، والسكون، والابتعاد عن أي طموح تمثيلي أو نقابي مستقل.

من الحماية إلى التواطؤ

مع تراجع المشروع الاشتراكي، وظهور تحالف السلطة مع المال منذ منتصف الثمانينيات، بدأت منظومة الفروغ تُقدَّم في الخطاب الرسمي كـ"عائق أمام الاستثمار".

ولم تعد الدولة حاميةً للضعيف، بل شريكًا ضمنيًا للقوي الجديد:

رجال أعمال على صلة مباشرة بالأجهزة الأمنية.



"مطورون" يملكون القدرة على تحريك القوانين وتفسيرها.



شركاء خفيّون في مجالس المدن والتنظيم العقاري.



في هذا السياق، أصبح إخراج التاجر القديم من محله، أو الحرفي من ورشته، مسألة وقت لا قانون.

وصارت عبارة "عندك فروغ؟ منخلّصك منو" تُقال في المكاتب العقارية لا كمساعدة قانونية، بل كعرض سياسي.

انكشاف الطبقة الوسطى

الطبقة التي ظنت يومًا أن الفروغ يحميها، وجدت نفسها محاصرة من جهتين:

القانون تغيّر فجأة، دون أي عملية تحويل عادلة للحقوق، أو تعويض مستقر.



السلطة لم تعد تُراعي الذاكرة أو الوظيفة الاجتماعية، بل فقط قيمة الموقع والعائد من التطوير.



وهكذا تحوّل التاجر التقليدي من "شريك غير مباشر في قيمة السوق"، إلى عبء على خطط "التحديث"، لا لذنب سوى أنه لم يُحدّث ورقة عقده، ولم يوقّع مع شريك جديد في السلطة.


4. حين يُعاد تنظيم المدينة بسلطة لا تمثّل سكانها

ما يجري في دمشق اليوم لا يمكن فهمه كمجرد تصحيح لعقود إيجار، ولا كإجراء لتنظيم الأسواق القديمة، بل هو إعادة توزيع امتيازات كبرى جرت دون أي عقد اجتماعي جديد، ودون تمثيل سياسي حقيقي للسكان.

فحين تسقط منظومة حكم مثل نظام الأسد، لا تسقط معها فقط أدواته الأمنية أو لغته البيروقراطية، بل تنهار أيضًا البُنى التي كرّست التفاوتات في الحيازة والحق، مثل الفروغ، والعقود المجمدة، والعرف الموروث. لكن بدلًا من مراجعة هذه البُنى ضمن رؤية عادلة، بدأت سلطات ما بعد الأسد بترحيل "من لا ورقة طابو له"، أو من لا سند قانونيًا يُرضي المستثمر الجديد، حتى لو كان شاغلًا لمحل تجاري منذ نصف قرن.

الخطير في هذا السياق أن التنظيم لا يُدار بوصفه فعلًا عمرانيًا يخدم الصالح العام، بل باعتباره أداة لإعادة فرز السكان، وتقاسم الفُرص العقارية، على قاعدة الولاء أو القرب من السلطة.

من الحماية إلى العبء: الفروغ كعدو التخطيط الحديث

بعد أن كان الفروغ يُمثّل نوعًا من الاستقرار الحقوقي للتاجر أو الحرفي، تحوّل في الخطاب الرسمي إلى "عائق أمام التطوير"، و"خلل لا بد من تصحيحه". لم يُنظر إليه كأثر من آثار صفقة اجتماعية عمرها أكثر نصف قرن، بل كتشوّه ينبغي اقتلاعه لاستيعاب مشاريع استثمارية جديدة.

بهذا المعنى، لم يعد الشاغل يُرى كفاعل اقتصادي أو شريك في إنتاج المدينة، بل كحالة مؤقتة يجب إنهاؤها، حتى لو استقر في محله أكثر من أي مالك تعاقب على العقار. فكل ما لا يُقاس بورقة ملكية أو مسطرة تنظيمية، يُعتبر "اغتصاباً"، وكل من لا يمتلك حق الرقبة، لا يستحق حتى الاعتراف بحق المنفعة.

وهكذا، لم تُعالج الأزمة بمنطق العدالة أو التدرج، بل فُكّكت العلاقة بين المدينة وسكانها كأنها علاقة تجارية بحتة، يغيب عنها التاريخ، والحضور، والوظيفة الاجتماعية.

تنظيم بلا تمثيل: من يرسم الخرائط ومن يدفع الثمن؟

في كل تجارب التخطيط الحضري العادل، يكون التمثيل شرطًا سابقًا على التنظيم. لا تُعاد صياغة المدينة من فوق، بل تُبنى خارطتها من توازن المصالح داخلها. أما في دمشق، فقد تم انتزاع التنظيم من يد السكان، وسُلّم للسلطة التي لا تمثّلهم، ولشركات تطوير ترتبط بالقرار لا بالحياة اليومية للمدينة.

بهذا المعنى، ليس "تنظيم الأسواق" خطوة إصلاحية، بل أداة لفرض إرادة المركز على المحيط. فالتاجر الذي قضى عمره في متجره، لا يُستشار، والمجتمع الذي حافظ على السوق بوصفه فضاءً عامًا مشتركًا، يُختزل إلى أرقام في خطة تنظيمية تُعدّ خلف أبواب مغلقة.

وهنا تظهر المفارقة: من يُقال له اليوم "اخرج"، لم يدخل أصلًا كضيف. بل هو من عمّر المدينة، وبناها من الداخل. لكن لأن صوته غير ممثّل، ولأن قانون التنظيم لا يستند إلى عقد اجتماعي جديد، يصبح إخراجه أمرًا تقنيًا، لا نفيًا سياسيًا–اجتماعيًا.

لا تحديث بلا ذاكرة: حين يُفكَّك السوق باسم الإصلاح

إنّ ما يجري باسم "تحرير السوق" أو "تنظيم المدينة" ليس مشروع تحديث عمراني بقدر ما هو تفكيك لتراكمات اجتماعية–اقتصادية بنت دمشق من الداخل. فالفروغ لم يكن مجرّد خلل قانوني، بل كان تعبيرًا عن صفقة اجتماعية: بين الشاغل الذي حافظ على المحل بوصفه مورد عيش وامتدادًا للذاكرة، وبين الدولة التي عجزت عن منح ملكية كاملة، لكنها منحت وعدًا ضمنيًا بالبقاء.

وحين تُلغى هذه الصفقة فجأة، دون تعويض، أو شراكة، أو إعادة تفاوض، فإن الرسالة تكون واضحة: "لم نعد نعترف بوجودك."

بهذا المعنى، لا يُمكن للفصل بين "الحق" و"الوظيفة" أن يُنتج مدينة قابلة للحياة. لأن من يُنزع حقه اليوم، لن يعود غدًا ليبني. ومن يُقال له إن إقامته لم تكن إلا صدفة قانونية، سيحمل المدينة كجُرح، لا كذاكرة.

وهكذا يتحوّل التنظيم إلى طرد، والتطوير إلى إقصاء، وتُعاد كتابة خرائط المدينة لا بمنطق العدالة، بل بمنطق الغلبة.


5. الفروغ كأداة صراع على المدينة: من توزيع الحماية إلى هندسة الولاء

لم تعد أزمة الفروغ، بعد كل ما سبق، مسألة قانونية بين مالك ومستأجر، بل تحوّلت إلى بوابة لصراع أشمل على شكل المدينة، ووظيفة السوق، ومن يحق له البقاء، ومن يُعاد ترحيله باسم التحديث. وهذا الصراع لا يُفهم إلا من خلال ثلاث زوايا مترابطة: السلطة، المجتمع، والمؤسسة.

الفروغ كامتياز تاريخي لا تتحمّله السلطة الجديدة

في لحظة الانهيار أو التحول، تسعى السلطة إلى إعادة رسم شبكات الامتياز بما يتناسب مع ترتيباتها الجديدة. وهنا تظهر خطورة الفروغ: ليس لأنه امتياز ظالم، بل لأنه امتياز لم تُنتجه السلطة بنفسها، بل وُلد من صفقة سابقة بين الدولة والمجتمع، تخلّت عنها الدولة لاحقًا دون تفكيكها أو استبدالها.

فمنطق الدولة الأمنية لا يتسامح مع امتياز لا يخضع لمركز القرار. والتاجر أو الشاغل الذي يملك حقًا فعليًا في البقاء، ولو دون ورقة ملكية، يُصبح عقبة أمام مشروع "إعادة الهيكلة" – ليس فقط عمرانيًا، بل سلطويًا.

هنا لا يُنظر إلى الفروغ كعائق للتنظيم، بل كحالة تمثيل اجتماعي–اقتصادي لا ترغب السلطة في الاعتراف بها. فهو يعني أن هناك "من له حق في السوق" دون أن يكون "من أهل الولاء"، وهذا مرفوض في منطق هندسة الطاعة.

من حماية السكان إلى إعادة ترتيب النسيج: البُعد الديمغرافي للصراع

حين يُعاد توزيع الحق في السكن والتجارة دون تعويض أو شراكة، فإن النتيجة ليست فقط تغييرًا في العقار، بل تغييرًا في السكان. فالمحلات التي تُسحب من شاغليها القدامى، والمنازل التي تُنزع من عائلات ورثت حضورها فيها لعقود، لا تُعاد إلى أصحابها الأصليين، بل غالبًا تُسلَّم لشركاء جدد في مشروع السلطة.

في حالات دمشق، نُقلت ملكيات أو حقوق استثمار إلى رجال أعمال جدد، أو نُفّذت مشاريع إعادة تنظيم تسمح للمتنفذين، المحليين أو الخارجيين، بالدخول إلى السوق من باب "التطوير".

وبينما لا يُعوَّض الشاغل القديم إلا نظريًا، يجد نفسه في واقع الأمر مطرودًا، لا فقط من المكان، بل من التاريخ. وتُستبدل الذاكرة الحضرية لشخصية المكان، بمخططات جديدة لا تملك جذورًا فيه، بل فقط امتيازًا صادرًا من أعلى.

المدينة كمنصة لإعادة إنتاج السلطة: من الورقة القانونية إلى الخريطة السياسية

ما يجري إذًا ليس صراعًا على الإيجارات، بل هندسة للسلطة عبر العمران. فمن يملك القرار في تنظيم السوق، يملك القرار في رسم خطوط النفوذ.

المسألة لم تعد "هل من العدل طرد الشاغل؟"، بل: من يقرر من يطرد، ومن يبقى؟

وهذا هو جوهر الدولة الهجينة في سوريا، التي تجمع بين أدوات القانون، ومنطق التوزيع الزبائني، وتُخضعهما لحسابات السلطة المركزية المتأثرة بعلاقاتها الخارجية.

إن نزع الفروغ دون تفاوض، ودون إطار عدالة انتقالية، يعني أن المدينة تُنظَّم لا لحماية سكانها، بل لإعادة إنتاج من يحكمهم.

وهكذا، تصبح المسألة العمرانية تعبيرًا عن بنية سياسية أعمق: دولة لا تُريد الاعتراف بمن بَنَوا المدينة من الأسفل، بل فقط بمن جاء ليُديرها من الأعلى.


خلاصة:

أزمة الفروغ ليست تعبيرًا عن خلل في الإيجارات فقط، بل عن خلل في التمثيل.

فمن حُرم من حقه بالمنفعة، لا لأنه انتهك القانون، بل لأنه لا يملك نفوذًا سياسيًا، هو في قلب معركة العدالة الحضرية.

والدولة التي تسقط عقدها القديم، دون أن تؤسس لعقد جديد عادل، تُطلق يد الاستبدال بدل الإصلاح.

والسؤال الذي يواجه دمشق اليوم ليس فقط: من يملك الأرض؟ بل: من يملك الحق في البقاء؟


6. القانون كذريعة لإعادة ترتيب السلطة لا لتحقيق العدالة

حين يُطرح "تنظيم المدينة" كقضية قانونية صرفة، يغيب عن النقاش أن القانون في سوريا لم يكن يومًا أداة حيادية. بل لطالما كان أداة لإعادة توزيع الامتيازات، إما عبر تدخل الدولة المباشر كما في التأميم، أو عبر نزع الحماية كما في موجات "تحرير السوق". وفي كلتا الحالتين، لم يكن الهدف تحقيق التوازن، بل إعادة ترتيب خرائط الولاء والنفوذ.


إعادة تعريف الملكية: من الحق الاجتماعي إلى الاحتكار الرسمي

في الفقه الإسلامي، كما في بعض التجارب الدولية، لا تُعتبر الملكية المطلقة غاية بذاتها، بل وسيلة تؤدي وظيفة اجتماعية. فمالك الأرض الذي لا يُحييها، أو يحتكرها دون منفعة، يمكن نزعها منه في بعض المذاهب الفقهية. أما في سوريا، فقد جرى العكس:

تمّ تجريد الشاغل من كل حق – حتى لو عمّر، أو خدم، أو استثمر – لأنه لا يحمل ورقة "ملكية رسمية".

لكن الورقة، هنا، ليست انعكاسًا للعلاقة العادلة بين الإنسان والمكان، بل انعكاسًا لعلاقة غير متكافئة بين المواطن والدولة، حيث:

من يملك الوثيقة هو من حاز على رضا الدولة أو سكوتها.



ومن لا يملكها، يُعامَل كدخيل حتى لو عمّر الحي لعقود.



من النظام الاشتراكي إلى اقتصاد الامتيازات الطارئة

حين انتقلت سوريا من نموذج الدولة الاشتراكية إلى اقتصاد ما بعد الاشتراكية (الذي لا يمكن وصفه بالليبرالي أو السوقي الناضج)، لم تُعد صياغة حقوق السكن أو الاستثمار، بل أُبقيت الآليات القديمة وغيّرت فقط شبكات المستفيدين.

لم يُعوَّض الفلاح بعد انتهاء الحماية الاشتراكية.



ولم يُكرَّس التاجر أو الحرفي كفاعل قانوني.



بل أُعيد توزيع الحقوق لصالح من يملكون القدرة على الاستثمار – أو النفوذ الأمني – في لحظة التحول.



القانون هنا كان "قشرة تحديث"، لكنه عمل فعليًا كـأداة انتقال للسلطة من شاغلي الأمس إلى شركاء اليوم في الحكم.

ما بعد الحرب: تدمير المنفعة لا تحرير العقار

بعد عام 2011، ومع التدمير الواسع للأحياء السكنية والتجارية، وُلد وهم أن الأزمة انتهت: لا بُنى، لا مستأجرين، لا نزاع.

لكن الواقع كشف العكس. فعبر مراسيم كـ66 و10، ظهرت الدولة بمظهر "المُشرّع"، لكنها كانت في الحقيقة تُعيد صياغة من يملك، ومن يُعوَّض، ومن يُقصى.

الفروغ لم يمت. بل ينتُزع.

لا لصالح المالك الأصلي بالضرورة، بل غالبًا لصالح:

مطور عقاري.



شركة شريكة في إعادة الإعمار.



أو مستثمر يحمل تفويضًا سياسيًا، لا سندًا قانونيًا.



والسكان الذين لم يُعترف بهم كملاك، لم يُعترف بهم حتى كضحايا.

خلاصة :

القانون، في السياق السوري، لا يعمل كأداة عدالة، بل كذريعة لإعادة إنتاج السلطة من جديد.

والمشكلة ليست في وجود فروغ أو عدمه، بل في أن السلطة لا تعترف بمن بَنى السوق، ولا تعوّض من خسره، ولا تُمكّن من بقي فيه من شراكة حقيقية.

بل تُحوّل الحق إلى "مكرمة"، والمنفعة إلى "مخالفة"، والذاكرة إلى "عائق أمام التنظيم".

في مثل هذا السياق، لا تكون المعركة حول متر مربع، بل حول تعريف من يُعتبر أهلًا للبقاء، ومن يُعاد ترحيله من ذاكرة المدينة باسم القانون.

7. خاتمة تحليلية: الفروغ كمرآة لا كاستثناء

أزمة الفروغ ليست مجرد خلاف قانوني بين مالك ومستأجر، بل مرآة مكبرة لانكسار العقد الاجتماعي في سوريا، وتجسيد لحالة مدينة يُعاد تنظيمها بسلطة لا تُمثّل سكانها، ولا تنطلق من حقهم في البقاء، بل من قدرتها على إعادة توزيع الامتيازات لصالح من تُريد.

لقد تحوّل الفروغ إلى أداة تذكير مؤلمة للسلطة:

بأن السوق لا يُبنى بالمرسوم.



وأن الحق لا يُختزل بالملكية الورقية.



وأن من بنى المدينة فعليًا لا يمكن طرده بقرار تنظيم أو عقد استثمار جديد.



كل من يهاجم الفروغ اليوم بوصفه "سرقة" أو "اغتصابًا للملكية"، يتجاهل أن الدولة نفسها صاغت هذا الامتياز ثم تخلّت عنه دون بديل. وحين جاء وقت التحوّل، لم تُقم عدالة انتقالية، بل قامت بتبديل الشاغلين، لا بإصلاح العلاقة.

العدالة لا تُبنى على الإخلاء، ولا بالتعويض الزهيد، ولا بإعادة التوزيع الانتقائي.

بل تبدأ من الاعتراف: أن هناك ذاكرة، وتراكمًا، وحقًا نُسي طويلًا، لكنه لم يمت.


سؤال للمستقبل: هل تتحمّل دمشق جولة أخرى من التحديث القسري؟

دمشق ليست مجرد طوابق تُهدم أو تُبنى، بل مدينة قائمة على علاقات ثقة، وذاكرة استخدام، وخرائط غير مكتوبة من التفاعل بين البشر والمكان.

إن موجة "إعادة التنظيم" الجديدة – إن أتت بلا تمثيل حقيقي، ولا عدالة انتقالية، ولا توازن بين الحقوق – قد تُنهي الفروغ، لكنها ستُطلق سلسلة جديدة من الانكسارات الاجتماعية، والخوف من المستقبل، وانهيار ما تبقى من ثقة بالعدالة.

ولذلك، فإن السؤال الحقيقي ليس: هل الفروغ حق أم غصب؟

بل: هل نملك شجاعة إعادة كتابة العقد الاجتماعي في المدينة؟

ومن نُريد أن يبقى حين نُعيد رسم الخريطة؟


هذا التقرير الخاص، تم إعداده من قبل مجموعة عمل دمشق،

و هو جزء من سلسلة "التحول الحضري … دمشق نموذجاً"

وهو لا يُغلق ملف الفروغ، بل يفتحه على سؤال أوسع:

كيف نُعيد تعريف الحق في المدينة؟ ومن يملك القرار في زمن ما بعد الدولة؟

bottom of page